إلزامية مادة الفلسفة في الإمتحانات الرسمية قرار تربوي بامتياز. / نادين خزعل
نائب رئيس التحرير
منذ إعلان وزارة التربية برنامج الإمتحانات الرسمية لشهادة الثانوية العامة والانتقادات من التربويين وغير التربويين باتت مادة نقاشات بعضها مدروس وأكثرها بل أغلبها لا علاقة له بجوهر القضية لا من قريب ولا بعيد.
أحد أوجه الانتقادات كان إدخال مادة الفلسفة ضمن المواد الإلزامية في الإمتحانات الرسمية لطلاب فروع ( الإجتماع والإقتصاد ،علوم الحياة والعلوم العامة)..
وانبرى كثيرون لتبني لسان حال الطلاب ( نحنا شو دخلنا بالفلسفة؟) وبدأت حملات التطبيل والتزمير الشعبية الرافضة والمنتقدة ولكن طبعًا وللأسف دون أي خلفية علمية تربوية منهجية.
للإطلاع على أهمية مادة الفلسفة ولمقاربة جعلها ضمن المواد الإلزامية تواصلت شبكة ZNN الإخبارية مع الأستاذ بيار مالك ، مقرر لجنة الفلسفة والحضارات في الإمتحانات الرسمية، الأستاذ المحاضر في الجامعة اللبنانية- كلية التربية، الأستاذ الثانوي والباحث التربوي.
بداية، أكد الأستاذ مالك أن مادة الفلسفة وفق المنهج اللبناني الذي أعد في العام 2000 هي تدخل ضمن منهج صف الثالث الثانوي، وهي تختلف عن مادة الفلسفة والحضارات التي تُدرس ضمن منهج الصف الثاني الثانوي والتي تكاد تكون أقرب إلى مادة التاريخ.
أما الفلسفة كمادة، فهي تتناول الوجود، الاخلاق، السياسة، الإنسان الماورائيات، البيئة، الطبيعة، العدالة، الحرية وغيرها، وهي تعطى بشكل موسع في قسم الآداب والانسانيات أما في صفوف فروع العلوم فتعطى بشكل مختصر موزع على عشرة دروس.
وتابع الأستاذ بيار مالك لشبكةZNN الإخبارية: مادة الفلسفة لا تعطى الا في صف الثالث الثانوي لأنها مفاهيم مجردة لا يستوعبها الطالب إلا بعد بلوغه سن معين، وهي تجعل الطالب يقف أمام ذاته ويسأل نفسه: لماذا درست؟ فتأتي الفلسفة لتجيبه بأن العلم لا يعطي أجوبة على كل شيء، فيدرك أن لا حقيقة مطلقة، ولا ثوابت، بل هناك قيم تتطور كي يصبح الانسان أكثر إنسانية.
وفي ما خص إدخالها ضمن المواد الإلزامية، أشار الأستاذ بيار مالك بأن قرار وزارة التربية بهذا الشأن هو غاية في المنطق والصوابية، لا سيما وأن المنهج اللبناني ما زال قائمًا على الامتحان والعلامات، والطالب لن يولي أهمية لمادة لن يمتحن بها، والمتعلم لا يأخذ بجدية المادة ما لم يكن هناك علامات.
والفلسفة بأكثر من ثلثها قائمة على التحليل والفكر النقدي والرأي الذاتي، والحديث عن ارتباطها بالفاقد التعليمي غير صحيح لأنها مادة تدرس في الصف الثالث الثانوي فقط.
وتابع الأستاذ بيار مالك قائلًا: “الفاقد التعليمي في لبنان دون شك موجود، والطلاب بظروف صعبة، ولكنها لا تقل خطورة عما شهده لبنان سابقًا ولبنان هو دومًا بلد الأزمات، ونحن مع أن تتم مراعاة الطالب ولكننا نرفض تعويده على الكسل. هذا العام وقبله تم تقليص المنهج طبعًا وفق آلية المدى والتتابع، ولكن لا بد لنا من العودة إلى المنهج الكامل بانتظار البدء بتطبيق المناهج الجديدة والتي نحن معها طبعًا.”
وتساءل الأستاذ بيار مالك عبر شبكة ZNN الإخبارية: هل يدرك السياسيون والحزبيون الذين يتدخلون بالتربية لأهداف شعبوية تخدم مصالحهم أن لبنان الذي كان يحتل طلابه المراتب الأولى في امتحانات الدخول الى الجامعات الأجنبية بدأت سمعته تتراجع؟ وأن بعض الجامعات في الخارج التي لديها ملاحظات على الإمتحانات الرسمية في لبنان تفرض على الطلاب سنة فريشمان قبل الحاقهم بالتعليم الجامعي؟ “
إلى ذلك أكد الأستاذ بيار مالك أن طبيعة المنهج اللبناني المطبق حاليًا تسمح بإشراك الطالب في القرار ولكن ليس تطبيق ما يراه الطالب مناسبًا،قالقرار النهائي يجب أن يأخذه التربويون وأهل الاختصاص فالمنهج الحالي لا يحاكي صيغة الاختيار.
وفي هذا الصدد أشار مالك إلى “فاجعة تربوية” إذ أنه ومن خلال عمله الجامعي رصد طلابًا في الجامعة لا يعرفون حتى القراءة العربية السليمة ولا يتقنون الكتابة بشكل صحيح.
وختم مالك عبر شبكة ZNN الإخبارية: أشد على يد وزارة التربية التي أعادت لمادة الفلسفة اعتبارها، وتسعى بخطى حثيثة لإعادة رفع مستوى التعليم في لبنان والحفاظ عليه.
وكان الأستاذ بيار مالك قد كتب عبر صفحته على الفايسبوك:
“وانتصرت الفلسفة”.
بصيص أمل لاح في أفق مظلم قاتم أعاد معه الأمل بفجر يوم جديد. نعم إنها الفلسفة، أم العلوم، العائدة من غياهب النسيان لتنفض عنها غبار الذل والهوان. ليس المقصود بالذل ذل الفلسفة لأنّ الفلسفة لا تعرف الذل، إنما ذل شعب حاول طمسها وتغييبها محمّلا إياها مسؤولية تقهقره، في حين أنّ تقهقره نتج عن غيابها أو تغييبها.
لقد عادت الفلسفة لتحتلّ مكانها الطبيعي بين باقي المواد التعليمية الأساسية في الامتحانات الرسمية؛ بعد أن شُنّت عليها الحملات مرّة بهدف إلغائها والحجّة صعوبتها، ومرّة أخرى بهدف تقليصها وتحجيمها بحجة عدم جدواها لمتعلم الفروع العلمية.
أما السؤال الذي يتردد كثيرا بين الأروقة اليوم فهو: لماذا عادت الفلسفة من بين كل باقي المواد الاختيارية؟ وماذا تقدّم الفلسفة لمتعلم الفروع العلمية الذي يتّجه للتخصّص بمجالات علمية بعيدة كل البُعد عنها؟
على السؤال الأول نجيب؛ إنّ تعليماً لا يُتوّج بالفلسفة هو تعليم فَقدَ هدفه وقيمته. فالفلسفة هي معرفة نقدية ومنطقية وشمولية وتوحيدية تأتي في آخر مسيرة المتعلّم التعليمية التعلّمية لتوحّد بين كلّ المواد وتربط بينها، وتعطيه المعنى والسبب من دراسة كل هذه الموادّ. فالفلسفة كما هو معروف لا تُصنّف ضمن التصنيفات الحالية للمواد كمادّة علمية أو مادّة أدبية، بل هي معرفة تماما كالمعارف الدينية والعامية والأسطورية والعلمية؛ وعندما تكون معرفة فانّها لا تتساوى مع باقي الموادّ التعليمية التي تنضوي ضمن المعرفة العلمية. كما أنّ الفلسفة هي الأساس ومصدر كل العلوم؛ إذ ان هذه الأخيرة انفصلت عنها على مراحل مختلفة ولكنها بقيت جميعها معلقة بها لأنها الأصل والباقي هي الفروع؛ ولا بدّ للفروع أن تبقى معلقة بالأصل كيلا تموت وكي تحافظ على قوتها ومناعتها. فعندما يسأل المتعلم نفسه لماذا تعلّمت كلّ هذه المواد، وبماذا تفيدني في حياتي اليومية والمستقبلية؟ تأتي الفلسفة لتفكّر معه حول الموضوع وتعطيه المعنى من كلّ ما درسه وأنجزه. سؤال المعنى أو سؤال الوجود يرافق الإنسان طوال حياته، ولن تستطيع المواد العلميّة من الإجابة عليه، لأنّ هدفها ينحصر بناحية واحدة من حياة الإنسان في حين انّ الفلسفة تطال كل النواحي. ولذلك؛ ردًّا على كل الذين ينادون بأن مناهج الدول المتطورة حصرت مواد السنين الأخيرة بمواد اختصاص المتعلم نجيب: أنتم على حق ولكن مادة الفلسفة بقيت إلزاميّة وممرّ عبور الى الجامعة في هذه الدول، والمثال على ذلك أنّ المنهاج الفرنسي يلزم كل المتعلّمين بدراسة الفلسفة ويخصص لها أربع حصص أسبوعية بتثقيل ثمانية في الامتحانات الرسمية؛ أما باقي الدول فانها تلزم متعلميها بمادة الفلسفة، إمّا في السنة الأخيرة من التعليم ما قبل الجامعي أو في التعليم الجامعي.
على السؤال الثاني نجيب؛ إنّ الفلسفة حاجة لدى متعلّم الفروع العلمية كما هو الحال لمتعلمي باقي الفروع. وفي هذا الإطار لا بد من ولوج باب التربية لكي نفهم أهميتها. عندما نتحدث تربية، فنحن نتحدث عن نمو إنسان وتفتّحه على الحياة؛ والتربية تختلف عن التعليم؛ فالتعليم هو تلقين امّا التربية فهي بناء شخصية. وما تقوم به المدرسة بالمفهوم الجديد هو تربية وتعليم وتعلّم؛ بمعنى آخر، كما أنّ دور الأهل لا ينحصر فقط بتأمين المأكل والملبس للولد، بل يتعدّاه الى التربية الدينية والأخلاقية والحياتيّة، كذلك المدرسة فهي الى جانب توجيه المتعلّم نحو تخصّص معيّن ملزمة بأن تربّيه على القيم وعلى مواجهة الحياة والتفكير الناقد والتفكير الحرّ وحلّ المشكلات التي تواجهه في الحياة، وكلّ هذه الكفايات المعروفة بكفايات القرن الواحد والعشرين هي من مهمّة مادّة الفلسفة. فإلغاء الفلسفة أو تهميشها، تهميشٌ لشخصيّة المتعلّم وقتل الإنسانية فيه، وجعله مجرّد رجل آلي يقوم بمهنة محدّدة دون الأخذ بحاجاته الإنسانية وقلقه الوجودي ومشاكله اليومية في الحسبان. فهل نحن نربّي رجال آليون أو بشر في مدارسنا؟ ألم تحذو الجامعات حذو المدارس فألزمت طلابها متابعة موادّ تنمّي ثقافتهم وتغني شخصيتهم دون أن يكون لها علاقة باختصاصهم؟ إذا كان هذا شأن الجامعات فكيف بالحريّ دور المدرسة؟ ومن أفضل من الفلسفة في تجهيز المتعلمين لخوض غمار الحياة؟ الفلسفة حاجة الإنسان يستند إليها ويستفيد منها على مدار الساعة لا فقط أثناء دوام عمله، فهي تصقل شخصيته وتنمّيها وتدفعه الى البحث عن الحكمة. ألم يكن العديد من الذين التحقوا بداعش وبعض المجموعات الأصوليّة من أصحاب الاختصاصات الجامعية؟ أين أوصلهم اختصاصهم وتميّزهم بالموادّ العلميّة دون تلقّيهم لمادّة الفلسفة؟ لقد تفنّنوا في طرق التعذيب وقتل الإنسان.
كفى يا سادة، فإن التعامي عن دور وأهمية الفلسفة في حياة المتعلم، لن يوصل إلاّ الى مجتمع بائس يكثر فيه الجهل ويقلّ المفكرون. اليوم عاد للفلسفة بريقها؛ وعادت لتحتلّ مكانها في الصدارة؛ ولن يكتمل إشعاعها إلّا بمنهج جديد يراعي كفاياتها والهدف من تعليمها؛ ويحاكي حاجات متعلّم اليوم والتطور الحاصل على أكثر من صعيد في عالمنا الحالي. فهل تكتمل الفرحة ويتحقّق هذا الحلم الذي طال انتظاره؟