في هذا المقال، تطرح الدكتورة هنا عرابي قراءة تحليلية لما بعد حرب 2024، بين أزمات الداخل اللبناني ومشاريع الخارج، متوقفة عند فكرة “المنطقة الاقتصادية العازلة” جنوبًا كوجه جديد لصفقة القرن بأدوات اقتصادية. المقال يضيء على تحديات التعافي وإعادة الإعمار، وحدود التوازن بين الحاجة إلى الدعم الدولي وصون السيادة الوطنية.
مقدمة
شهد لبنان عام 2024 واحدة من أعنف جولات الصراع منذ حرب تموز 2006، إذ امتدت المواجهات لتطال البنية التحتية المدنية في الجنوب والبقاع وبيروت ، وتفاقمت الأزمات الإقتصادية والإجتماعية في بلد يعيش أصلًا انهيارًا ماليًا منذ عام 2019. ومع توقف العمليات العسكرية، برزت إلى السطح مشاريع سياسية واقتصادية تهدف إلى إعادة ترتيب المشهد الحدودي والجغرافي في جنوب لبنان، تحت عناوين “التعافي”، و”إعادة الإعمار”، و”المنطقة الاقتصادية العازلة”.
لكن هذه الطروحات لم تُقرأ محليًا بمعزل عن السياق الإقليمي والدولي. فـ”المنطقة الاقتصادية العازلة” تبدو للبعض امتدادًا مباشرًا أو غير مباشر لما عرف بـ”صفقة القرن” التي أطلقها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب عام 2020، والتي قامت على إعادة رسم الخريطة الجيوسياسية للمنطقة عبر الإقتصاد، وجعل التنمية الإقتصادية أداة لإخضاع الشعوب وترتيب ميزان القوى لصالح إسرائيل.
في هذا المقال، نحاول مقاربة هذه الإشكالية من زاويتين:
- واقع لبنان ما بعد حرب 2024 والتحديات الداخلية للتعافي.
- طبيعة “المنطقة الاقتصادية العازلة” المقترحة جنوبًا، ومدى ارتباطها بالتصورات الدولية القديمة-الجديدة حول صفقة القرن.
أولًا: لبنان بعد حرب 2024 – جراح جديدة فوق أزمات مزمنة
- البنية التحتية المدمرة
وفقًا لتقديرات البنك الدولي والأمم المتحدة، تكبد لبنان خلال حرب 2024 خسائر مباشرة تجاوزت 3 مليارات دولار في البنية التحتية، خصوصًا في الجنوب والبقاع. شملت هذه الخسائر:
تدمير شبكات الكهرباء والمياه.
أضرار جسيمة في المدارس والمستشفيات.
تضرر أكثر من 45 ألف وحدة سكنية بشكل كلي أو جزئي.
إلى جانب الأضرار المادية، ارتفعت نسب النزوح الداخلي، حيث لجأ ما يقارب 120 ألف مواطن من الجنوب إلى بيروت والجبل والشمال، ما فاقم الضغط على الخدمات العامة والبلديات.
- الأزمة الاقتصادية المستمرة
قبل الحرب، كان لبنان يعيش أسوأ أزمة مالية في تاريخه:
انهيار سعر صرف الليرة.
فقدان القطاع المصرفي لثقة المواطنين.
إعتماد الإقتصاد على الدولار النقدي (الكاش).
جاءت الحرب لتضاعف الانكماش الاقتصادي، حيث انخفض الناتج المحلي بنسبة 6% إضافية عام 2024 وفق تقديرات صندوق النقد الدولي.
- التحدي الإنساني والاجتماعي
أدت الحرب إلى تراجع مؤشرات الأمن الغذائي، إذ بات أكثر من 55% من الأسر اللبنانية تحت خط الفقر المتعدد الأبعاد. كما ارتفعت البطالة بين الشباب إلى نحو 40%، وسط انسداد في أفق الحلول السياسية.
ثانيًا: فكرة “المنطقة الاقتصادية العازلة” – مشروع تنموي أم إعادة هندسة جيوسياسية؟
- الجذور التاريخية للفكرة
ليست “المنطقة العازلة” فكرة جديدة. فقد طُرحت منذ الثمانينيات كخيار أمني لإبعاد خطر المقاومة عن المستوطنات الشمالية. لكن الجديد بعد حرب 2024 هو إعادة طرحها كـ”منطقة اقتصادية”، أي ربط الأمن بالتنمية، من خلال تحويل الشريط الحدودي إلى فضاء استثماري بتمويل دولي.
- مضمون الطرح الحالي
بحسب تقارير صحفية إسرائيلية وغربية، يتضمن الطرح:
إقامة حزام أمني-اقتصادي بعرض يتراوح بين 5 و10 كيلومترات داخل الأراضي اللبنانية.
تمويل مشروعات زراعية وصناعية صغيرة فيه بإشراف الأمم المتحدة أو قوة دولية جديدة.
منح مساعدات مباشرة للسكان المحليين لتعزيز بقائهم والقضاء على قدرات حزب الله.
- منطق القوة الناعمة
الفكرة تسعى إلى تحويل الصراع من عسكري إلى اقتصادي، أي مقايضة “الأمن” بالتنمية. لكنها في الجوهر تحمل خطر تحويل الجنوب اللبناني إلى منطقة نفوذ دولي، تُدار بتمويل خارجي وضوابط سياسية – أمنية تتجاوز سيادة الدولة.

ثالثًا: العلاقة بصفقة القرن – استمرارية بأدوات مختلفة
- الاقتصاد كمدخل للتسويات
“صفقة القرن” التي أطلقها ترامب عام 2020 لم تقتصر على الجانب السياسي (تصفية القضية الفلسطينية)، بل تضمنت خطة اقتصادية بقيمة 50 مليار دولار للاستثمار في فلسطين والأردن ولبنان ومصر.
في لبنان، خصصت الخطة 6 مليارات دولار لمشاريع بنية تحتية وتنموية، على أن تُدار عبر صندوق دولي. الهدف كان واضحًا: إعادة هندسة المنطقة عبر الاقتصاد بدلًا من السياسة.
- المنطقة الاقتصادية العازلة امتداد للفكرة
الطرح الجديد في جنوب لبنان يبدو نسخة معدلة من تلك الخطة:
في صفقة القرن: استثمارات مقابل تخلي عن الحقوق.
في الطرح الحالي: تنمية حدودية مقابل ضبط الأمن وإضعاف المقاومة.
- التحالفات الإقليمية والدولية
لا يمكن فصل هذه المشاريع عن التحولات الإقليمية بعد حرب غزة 2023–2024، إذ تسعى واشنطن وتل أبيب لتثبيت “سلام اقتصادي” يسبق أي تسوية سياسية، مستفيدة من موجة التطبيع العربي.
رابعًا: التحديات أمام التعافي اللبناني
- التحدي السيادي
إقامة منطقة اقتصادية عازلة قد تمثل عمليًا مسًّا بالسيادة اللبنانية، إذ تنشئ واقعًا جغرافيًا-اقتصاديًا جديدًا تحت إشراف خارجي. هذا يهدد بترسيخ الانقسام بين الدولة المركزية ومناطق النفوذ.
- الانقسام الداخلي
المشهد اللبناني الداخلي منقسم:
فريق يرى في أي تمويل دولي فرصة لتعويض الخسائر.
فريق آخر يعتبر الأمر مشروعًا لتفكيك الدولة وإضعاف المقاومة.
هذا الانقسام يهدد بتعطيل أي خطة وطنية موحّدة لإعادة الإعمار.
- التمويل المشروط
التجربة اللبنانية مع المساعدات الدولية (مثل مؤتمر سيدر 2018) أثبتت أن التمويل الخارجي غالبًا مشروط بإصلاحات سياسية واقتصادية قد لا تنسجم مع الواقع المحلي. وبالتالي فإن “المنطقة العازلة” قد تتحول إلى أداة ابتزاز اقتصادي.
خامسًا: أي نموذج للتعافي؟
- التعافي الموجه دوليًا
في حال تم تبني “المنطقة الاقتصادية العازلة”، سيكون التعافي اللبناني خاضعًا لإشراف وتمويل خارجي، مع مخاطر على السيادة.
- التعافي الوطني المتمحور حول البلديات
بديل ذلك هو تعزيز دور البلديات واللامركزية الإنمائية، بحيث تُمنح السلطات المحلية الموارد لإدارة إعادة الإعمار، مع رقابة الدولة المركزية، بما يضمن التنمية من الداخل.
- التعافي التشاركي
إشراك المجتمع المدني والقطاع الخاص والجامعات في صياغة خطط التنمية يمكن أن يخلق نموذجًا أكثر استدامة من المشاريع المفروضة خارجيًا.
خاتمة
إن النقاش حول “المنطقة الاقتصادية العازلة” في لبنان ما بعد حرب 2024 لا يمكن فصله عن السياق الأوسع لصفقة القرن وما حملته من محاولات لإعادة هندسة المنطقة اقتصاديًا.
في الظاهر، تبدو الفكرة مشروعًا للتنمية والتعافي. لكنها في العمق قد تكون أداة لإعادة تشكيل الجغرافيا السياسية على حساب السيادة اللبنانية، وتحويل الجنوب إلى منطقة نفوذ دولي.
التحدي أمام لبنان اليوم ليس فقط في إعادة إعمار ما دمرته الحرب، بل في صياغة نموذج تعافٍ وطني يوازن بين الحاجة إلى التمويل الخارجي والحفاظ على السيادة، ويجعل التنمية وسيلة لتعزيز الدولة لا لتفكيكها.
ويبقى السؤال الجوهري:
هل سيتحول التعافي في لبنان بعد حرب 2024 إلى فرصة لإعادة بناء الدولة على أسس جديدة، أم إلى بوابة لمشاريع دولية تُعيد إنتاج “صفقة القرن” بأدوات مختلفة؟
