من الحرب إلى الريادة: المرأة الجنوبية كقوة ناعمة للتنمية المستدامة/د.هنا عرابي
لطالما ارتبط الجنوب اللبناني بتاريخ طويل من التضحيات والمقاومة، حيث كانت المرأة الجنوبية شريكاً أساسياً في مسيرة النضال والدفاع عن الأرض والهوية. إلا أنّ التحولات التي شهدها لبنان بعد حرب 2024 أظهرت بوضوح أن المرأة لم تعد فقط رمزاً للصمود العسكري أو الاجتماعي، بل باتت أيضاً قوة ناعمة تدفع عجلة التنمية المستدامة، وتعيد صياغة دورها في المجتمع ضمن أطر جديدة تجمع بين الريادة الاقتصادية، التمكين الاجتماعي، والمشاركة الفاعلة في صياغة مستقبل أكثر استقراراً.
المرأة الجنوبية في ذاكرة المقاومة
منذ الاجتياحات الإسرائيلية في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، كانت المرأة الجنوبية حاضرة في خطوط المواجهة الأولى، سواء عبر حماية العائلة والمجتمع، أو عبر المشاركة غير المباشرة في دعم المقاومين، أو حتى عبر الانخراط في العمل التربوي والثقافي لتعزيز الهوية الوطنية. هذا الحضور جعلها جزءاً من مفهوم “المقاومة الشاملة”، حيث لم يعد السلاح وحده وسيلة المواجهة، بل أيضاً الثقافة، التعليم، والصمود الاقتصادي.
وقد أكدت تقارير “الإسكوا” (2022) أنّ النساء في لبنان، وخاصة في المناطق الحدودية، لعبن أدواراً استثنائية في تعزيز “الأمن الاجتماعي” أثناء الأزمات، ما جعل دورهن أكثر بروزاً في السياق التنموي لاحقاً.
حرب 2024: تحديات جديدة وفرص للتحول
شكّلت حرب 2024 محطة مفصلية في تاريخ لبنان، ولا سيما الجنوب. فرغم الخسائر الاقتصادية الكبيرة التي قدرتها وزارة الاقتصاد اللبنانية بحوالي 3.2 مليار دولار، والخسائر البشرية التي تجاوزت 1200 ضحية بحسب تقارير حقوقية، فإنّ هذه الحرب أظهرت قدرة المجتمع الجنوبي على إعادة بناء نفسه بسرعة، مع بروز دور المرأة في إدارة الأزمات على مستوى الأسرة والمجتمع.
تشير دراسة صادرة عن “منظمة كير الدولية” (2025) إلى أنّ النساء كنّ أكثر من 55% من القائمين على المبادرات الإغاثية المحلية في الجنوب أثناء الحرب وبعدها، سواء في مجال توزيع الغذاء، أو إنشاء شبكات تضامن اجتماعي، أو حتى إطلاق مشاريع صغيرة لإعادة إنعاش الاقتصاد المحلي.
من المقاومة الصلبة إلى القوة الناعمة
تُظهر تجربة المرأة الجنوبية بعد حرب 2024 تحوّلاً جوهرياً: من دور المقاومة المرتبطة بالبعد العسكري والصمود الاجتماعي، إلى أداة من أدوات “القوة الناعمة” التي تدعم التنمية المستدامة. فالقوة الناعمة هنا لا تقتصر على نشر صورة حضارية عن الجنوب اللبناني، بل تتجسد في قدرة النساء على قيادة المبادرات التنموية، ودعم الاقتصاد المحلي، وتوظيف الريادة الاجتماعية لتعزيز الاستقرار.
في هذا السياق، أطلقت عدة مبادرات بتمويل من وزارة التعاون الاقتصادي والتنمية الألمانية BMZ وبالشراكة مع منظمة Welthungerhilfe – WHH، ومنها مشروع: “تمكين المرأة وتعزيز مرونة المجتمعات الريفية والغذائية المستضعفة في جنوب لبنان وبيروت”. هذا المشروع ساهم في دعم عشرات السيدات عبر برامج تدريب على ريادة الأعمال، الزراعة المستدامة، وتسويق المنتجات المحلية، بما يرسخ أدوار النساء كفاعلات اقتصاديات مستقلات.
المرأة الجنوبية وريادة الأعمال
بعد الحرب، ارتفعت نسبة المشاريع الصغيرة التي تديرها نساء في الجنوب بنسبة 37% وفقاً لتقرير البنك الدولي (2025)، خاصة في مجالات الصناعات الغذائية، الحرف اليدوية، والزراعة المستدامة. هذه المشاريع لم تكن مجرد مصدر دخل، بل شكلت أدوات لتعزيز “الأمن الغذائي” وخلق فرص عمل محلية، وبالتالي المساهمة في تخفيف حدة البطالة التي تجاوزت 30% في الجنوب بعد الحرب مباشرة.
كما ساهمت هذه المبادرات في تعزيز “الاقتصاد الأخضر”، حيث ركزت الكثير من السيدات على الزراعة العضوية وإعادة التدوير، انسجاماً مع أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة، خصوصاً الهدف الخامس (المساواة بين الجنسين) والهدف الثامن (العمل اللائق والنمو الاقتصادي).
من الهامش إلى الفعل السياسي والاجتماعي
لم يقتصر دور المرأة الجنوبية بعد حرب 2024 على الريادة الاقتصادية فحسب، بل امتد إلى المشاركة السياسية والاجتماعية. فقد شهدت انتخابات المجالس البلدية في 2025 ارتفاعاً في عدد المرشحات بنسبة 18% مقارنة بعام 2016، وهو ما يعكس تحولاً في الثقافة المجتمعية التي باتت ترى في المرأة شريكاً أساسياً في صنع القرار.
إنّ المرأة الجنوبية، التي خاضت تجربة المقاومة والصمود لعقود طويلة، باتت اليوم تشكل قوة ناعمة حقيقية تدفع نحو التنمية المستدامة. فهي مقاومة على مر التاريخ، لم تخسر هويتها، لكنها أعادت صياغة أدواتها لتصبح ريادية، فاعلة، ومؤثرة في إعادة بناء مجتمعها واقتصاده.
من الحرب إلى الريادة، ومن المقاومة الصلبة إلى التنمية الناعمة، تثبت المرأة الجنوبية أنّ التنمية المستدامة لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال استثمار رأس المال الاجتماعي والمعرفي الذي تمثله النساء، ليصبحن جسراً بين الماضي المليء بالتضحيات والمستقبل المليء بالفرص.
