يمر لبنان، منذ تأسيسه في العام 1943، بسلسلة من الأزمات التي شكلت جزءًا من هويته الوطنية المتعددة الأطراف. وعلى الرغم من تعدد الأزمات الاقتصادية والسياسية، تظل الحرب الأخيرة، التي مر على اندلاعها عام كامل، تجربة مؤثرة في التاريخ اللبناني المعاصر. هذه الحرب لم تترك أثرها على البنية المادية فحسب، بل امتدت تأثيراتها إلى الذاكرة الجمعية للناس وهويتهم الوطنية، فتسببت في صدمة جماعية تهدد تماسك المجتمع، وأظهرت هشاشة الروابط الاجتماعية والنفسية بعد سنوات من التجاذبات الطائفية والسياسية.
أولاً: الحرب والذاكرة الجمعية
الذاكرة الجمعية في المجتمعات المتأثرة بالصراعات تمثل مرآة لتجارب الشعوب، فهي تجمع بين ما هو موثق تاريخيًا وما هو شعوري وتجريبي في حياة الناس اليومية. في لبنان، تشكل الحروب المتلاحقة – من الحرب الأهلية 1975-1990 إلى حروب الجوار الأخيرة – طبقات من الذاكرة التي تتشابك مع الهوية الوطنية.
الحرب الأخيرة، التي اندلعت قبل عام، شكلت صدمة فريدة، ليس فقط بسبب خسائر الأرواح والممتلكات، بل بسبب شعور واسع بالانكسار وفقدان الأمن النفسي. الدراسات النفسية الاجتماعية تشير إلى أن الشعور بالعجز الجماعي أمام الصدمات يترك أثرًا طويل المدى على الثقة بالمؤسسات الوطنية، ويؤدي إلى إعادة تشكيل الهوية الجماعية وفق تجارب البقاء والصراع اليومي.
في لبنان، أثبتت ملاحظات ميدانية أن العديد من اللبنانيين بدأوا في إعادة تقييم علاقتهم بالدولة والمجتمع المحلي، مع الميل إلى الاعتماد على الروابط القبلية والمحلية بدلاً من الهياكل الرسمية. هذا التحول يعكس صعوبة استعادة الثقة بسرعة، ويبرز أهمية البرامج النفسية والاجتماعية التي تعزز الانتماء الوطني وتدعم قدرة المجتمع على التعافي.
ثانيًا: الهوية الوطنية اللبنانية بين الصراع والتعددية
لبنان بلد متعدد الطوائف والأعراق، والهوية الوطنية فيه غالبًا ما تتقاطع مع الهويات الطائفية والمذهبية. بعد الحرب، يصبح السؤال عن الهوية الوطنية أكثر حدة: هل يُنظر إلى الهوية اللبنانية كوحدة جامعة، أم كخليط من الانتماءات المحلية والجهوية؟
التجربة الأخيرة أظهرت أن الهوية الوطنية في لبنان ليست ثابتة، بل قابلة للتغيير بحسب التجارب الجماعية. حيث أن الفقدان والخوف المشترك أوجد مساحة لإعادة تعريف الانتماء: بعض اللبنانيين وجدوا في التجارب المشتركة فرصة لتجاوز الانقسامات التقليدية، بينما استعاد آخرون الروابط التقليدية كآلية دفاعية للحماية النفسية والاجتماعية.
في هذا السياق، لعبت المؤسسات المدنية والمنظمات غير الحكومية دورًا محوريًا. المبادرات المجتمعية التي تجمع أفرادًا من مختلف الطوائف حول مشاريع إنسانية، أو تقديم الدعم النفسي والاجتماعي للمتضررين، ساهمت في تعزيز شعور الانتماء الوطني المشترك وتخفيف أثر الصدمات النفسية.
ثالثًا: الآثار النفسية والاجتماعية للحرب على المجتمع اللبناني
تُظهر الدراسات النفسية الاجتماعية أن الحرب تؤثر على المجتمع بعدة أبعاد:
- الصدمة الجماعية: يشعر الأفراد بعد الحرب باضطرابات نفسية نتيجة فقدان الأمن، مثل القلق المستمر، واضطرابات النوم، والاكتئاب الجماعي.
- تغير العلاقات الاجتماعية: تعزز الحرب الانعزال الاجتماعي وتضعف الثقة بين الأفراد، خصوصًا بين المجتمعات التي تعايشت مع الصراع المباشر.
- هجرة العقول والقدرات: شهد لبنان بعد الحرب زيادة في هجرة الشباب والكوادر المهنية، ما يضعف البنية الاجتماعية ويؤثر على هوية الوطن كمجتمع منتج وقادر على التعافي.
- تحديات التربية والتعليم: الأطفال والشباب الذين عايشوا الحرب يواجهون صعوبات في التعلم والاندماج الاجتماعي، مما يهدد استدامة الهوية الوطنية على المدى الطويل.
لكن في مقابل هذه التأثيرات السلبية، ظهرت ظواهر من الصمود المجتمعي: التضامن بين الأسر، مبادرات الدعم النفسي، التطوع المجتمعي، والعمل المشترك بين مختلف الطوائف لإعادة الإعمار المحلي. هذه الظواهر تمثل حجر الزاوية في عملية استعادة التوازن النفسي والاجتماعي، وتؤكد أن الهوية الوطنية قادرة على التعافي من خلال مشاركة الخبرات الجماعية الإيجابية.

رابعًا: استراتيجيات استعادة التوازن النفسي والاجتماعي
لكي يتمكن اللبنانيون من إعادة بناء توازنهم النفسي والاجتماعي بعد الحرب، تظهر عدة آليات استراتيجية:
- البرامج النفسية والدعم الاجتماعي: توفير خدمات الدعم النفسي المباشر، العلاج الجماعي، وورش العمل المجتمعية، خاصة للأطفال والشباب المتأثرين بالصراع.
- تعزيز الذاكرة الجمعية الإيجابية: من خلال نشر قصص الصمود، المشاريع الثقافية، والتوثيق التاريخي لتجارب النجاة والتضامن، ما يعزز شعور الانتماء ويخفف من أثر الصدمة.
- التعليم المدني والتاريخي: تعزيز مناهج تعليمية تركز على قيم المواطنة والانتماء الوطني، مع تحليل نقدي لتجارب الصراعات السابقة، لتقوية الوعي الجماعي بالهوية الوطنية.
- المبادرات المجتمعية المشتركة: تشجيع التعاون بمختلف مرتكزاته بين كافة الطوائف والمناطق لإعادة الإعمار، مما يعيد بناء الثقة بين المكونات الاجتماعية ويخلق شعورًا بالهدف الوطني المشترك.
- دعم الإعلام الإيجابي: نشر محتوى إعلامي يعزز الوحدة، يظهر تجارب التضامن، ويسلط الضوء على قصص النجاح في مواجهة الحرب.
تطبيق هذه الآليات بشكل متكامل يمكن أن يحول تجربة الحرب إلى فرصة لإعادة تعريف الهوية الوطنية، وتعزيز القدرة المجتمعية على الصمود والتكيف مع الصدمات المستقبلية.
خامسًا: أمثلة وتجارب واقعية من لبنان بعد الحرب
خلال العام الماضي، شهدت عدة مناطق لبنانية مبادرات مجتمعية ساهمت في إعادة بناء الروابط الاجتماعية:
في بعلبك والجنوب، أطلقت منظمات مدنية حملات لإعادة بناء المدارس والمراكز الصحية، شارك فيها سكان من مختلف الطوائف، ما ساعد على تخفيف التوترات المحلية وتعزيز روح التعاون.
في بيروت، شهدت مبادرات دعم الشباب المتأثرين بالحرب مثل ورش الفنون والرياضة، التي ساهمت في معالجة الصدمات النفسية للأطفال والشباب وإعادة بناء مهارات التواصل الاجتماعي.
الإعلام اللبناني شهد تحولًا نسبيًا نحو التركيز على قصص الصمود والتضامن، بدلاً من التركيز على الانقسامات، ما أعطى مساحة للذاكرة الجماعية الإيجابية والهوية الوطنية المشتركة.
هذه الأمثلة تؤكد أن التوازن النفسي والاجتماعي ليس مجرد عملية علاجية، بل هو مشروع مجتمعي طويل المدى يتطلب مشاركة الجميع، من الدولة إلى المؤسسات المدنية والمجتمع المحلي.
خاتمة
بعد مرور عام على الحرب، يواجه لبنان تحديًا مزدوجًا: استعادة ما فقده من تماسك اجتماعي ونفسي، وتعزيز هويته الوطنية في مجتمع متعدد الطوائف ومشحون بالتجارب الصادمة. تظهر التجربة اللبنانية أن الهوية الوطنية ليست ثابتة، بل هي نتاج الذاكرة الجمعية والتجارب المشتركة، ويمكن تعزيزها من خلال برامج الدعم النفسي، المبادرات المجتمعية، والتعليم المدني، والإعلام الإيجابي.
النجاح في استعادة التوازن النفسي والاجتماعي لن يكون سريعًا، لكنه ممكن إذا تم الاستثمار في إعادة بناء الثقة بين اللبنانيين، وتعزيز الانتماء الوطني، والعمل المشترك لتجاوز آثار الحرب. فالذاكرة الوطنية، كما تظهر التجربة اللبنانية، هي أداة للشفاء والصمود، ومفتاح لإعادة بناء مجتمع متماسك قادر على مواجهة تحديات المستقبل.
