المحللون على الشاشات… بين صناعة الرأي وتضليل الجمهور!
تساؤلات حول من يستحق الظهور الإعلامي، ومن يملك المؤهلات الحقيقية للتحليل، وما دور القنوات والجمهور في ضبط معايير الجودة والمصداقية.
في زمن التحوّلات المتسارعة، أصبح المحلل السياسي أو الأمني ضيفًا يوميًا على الشاشات، يتحدّث في كل شيء تقريبًا، من الجغرافيا إلى الحروب، ومن المفاوضات إلى احتمالات الانفجار. لكن خلف هذا المشهد، تبرز تساؤلات مشروعة: من هو المحلل؟ وما مسؤوليته؟ وهل كل من يتحدث باسم “التحليل” يملك حق الظهور؟
هذا المقال يفتح النقاش بمهنية وهدوء، بعيدًا عن الشخصنة، ليسلّط الضوء على ظاهرة تحتاج إلى تنظيم وإعادة نظر.
في السنوات الأخيرة، شهدنا صعودًا كبيرًا في أعداد المحللين السياسيين والاستراتيجيين والأمنيين الذين يظهرون بشكل يومي على الشاشات والمنصات الإعلامية المختلفة. بعضهم يقدّم رؤى عميقة تستند إلى معطيات وتحليل منهجي، بينما يتحوّل آخرون إلى نجوم مؤقتين لا يحملون من صفة “المحلل” سوى الاسم، ويتحدثون بلغة يغلب عليها التهويل أو الانحياز، ما يجعل المشاهد والقارئ في حيرة من أمره: من أصدق؟ من أفهم؟ ومن يستحق أن أتابعه؟
في هذا السياق، يبرز سؤال محوري: من هو المحلل الحقيقي؟ وما معايير هذا الدور؟ وكيف يُفترض أن يتعامل مع المعلومة؟ وما مسؤولية القنوات في اختياره؟ وما دور الجمهور في فرز الغث من السمين؟
أولاً: من هو المحلل؟
المحلل، بالمعنى المهني، ليس مجرد شخص يتقن الكلام، بل هو باحث أو خبير أو صاحب تجربة يمتلك أدوات معرفية وتحليلية تمكّنه من قراءة الأحداث وربطها بسياقاتها السياسية أو الأمنية أو الاقتصادية. يجب أن يكون على دراية بالخلفيات التاريخية والجغرافية والثقافية للموضوع الذي يتحدث عنه، وأن يتّسم حديثه بالدقة، لا بالمبالغة أو الإثارة.
المحلل ليس إعلامياً بالضرورة، لكنه يتكامل مع الإعلام حين يقدّم رأياً مبنيًا على فهم ومعرفة، لا على انطباع أو ولاء سياسي أو طموح شخصي. ومن الخطأ الكبير اختزال دوره في كونه مجرد “صاحب رأي”، لأن التحليل مسؤولية معرفية وأخلاقية تتطلب التروي، البحث، والتحقق.
إن أحد أبرز مشكلات المشهد الإعلامي اليوم هو أن بعض من يُقدَّمون كمحللين يفتقرون إلى التأهيل الأكاديمي أو الميداني، فيكتفون بإعادة تدوير الشائعات أو استنساخ آراء مأخوذة من وسائل التواصل دون تمحيص أو فهم.
ثانياً: المعلومة بين المصدر والضمير المهني
حين تصل إلى المحلل معلومة ما – سواء كانت مسرّبة أو خاصة أو من مصدر مفتوح – فإن أول ما يُفترض أن يقوم به هو التحقق. فالمعلومة غير المؤكدة قد تكون مضلّلة، أو جزءًا من حملة دعائية أو تسريب متعمّد لهدف سياسي أو إعلامي.
ليس دور المحلل أن “يُسرّب” أو “يكشف” ما لم يكن متأكدًا من صحته، بل عليه أن يتعامل مع المعلومة ضمن إطارها، وأن يُخضعها لمقارنة مع معطيات أخرى، ويقيّم تأثير نشرها على الرأي العام.
هنا تبرز أهمية الضمير المهني: فالمعلومة ليست مجرد مادة تحليلية، بل قد تكون ذات أثر كبير على وعي الناس أو على استقرار المجتمع، ومن هنا فإن الانزلاق نحو تقديم معلومات خاطئة أو غير مؤكدة يُعدّ إخلالاً فادحًا بالمهنية، وقد يرقى إلى مستوى الخطر في بعض الأحيان.
ثالثاً: كيف يُقدَّم التحليل للجمهور؟
التحليل ليس ساحة للخطابة ولا منصة لتصفية الحسابات. إنما هو جهد عقلي هدفه توضيح الصورة لا تعقيدها، وشرح الأبعاد والخلفيات لا التهويل أو التخويف. المطلوب من المحلل أن يُقدّم قراءة متوازنة، متحررة من العواطف والانفعالات، بلغة عقلانية يفهمها الناس وتساعدهم على بناء مواقفهم وفهم محيطهم.
من الجيد أن يمتلك المحلل مهارة الإقناع والتواصل، لكن الأخطر أن يُوظف هذه المهارات لنشر معلومات غير دقيقة أو تقديم استنتاجات جازمة لا تستند إلى أسس قوية. كما أن تكرار العبارات القطعية من نوع “سوف يحدث كذا”، أو “المعلومات المؤكدة تقول”، دون الاستناد إلى مصادر شفافة، يضعف من مصداقية المحلل ويحوّله إلى أشبه بـ”المُبشِّر” لا المحلل.
يجب أن يشعر المتلقي بأن هذا المحلل يُنير له الطريق، لا يفرض عليه رأيًا. ومن هنا تبرز أهمية أن يعرض المحلل وجهات النظر المختلفة، ويوضح الاحتمالات المتعددة، ويترك للجمهور حق التأمل والتقييم.
رابعاً: مسؤولية القنوات الإعلامية في اختيار الضيوف
تتحمل القنوات الإعلامية جانبًا كبيرًا من المسؤولية في رسم صورة “المحلل” لدى الجمهور. فالقناة ليست فقط ناقلاً للحدث، بل مؤثّر في الوعي العام، ومن هنا وجب عليها أن تختار ضيوفها بعناية ومسؤولية.
الاعتبارات التي تحكم اختيار الضيوف يجب أن تكون مهنية بالدرجة الأولى: ما خبرة الضيف؟ ما خلفيته الأكاديمية أو العملية؟ هل يتمتع بتاريخ نزيه ومهني؟ هل سبق أن قدّم تحليلات ثبت صحتها؟ أم أنه اعتاد على المبالغات والتكهنات؟
للأسف، في كثير من الأحيان تُغلب الاعتبارات السياسية أو “الرغبة في الإثارة” على المهنية، فيُستضاف من يتقن “اللعب أمام الكاميرا” أكثر ممن يمتلك معرفة حقيقية، ويُكرَّس وجه إعلامي لا لكونه خبيرًا، بل لأنه صاحب طلة جذابة أو لغة صادمة.
الإعلام الجاد لا يبحث عن “أبطال من ورق”، بل عن شركاء في صناعة وعي رصين. ومن هنا فإن بناء بنك أسماء للمحللين المستقلين والمتخصصين بات ضرورة، بعيدًا عن الأهواء والانتماءات الضيقة.

خامساً: ما دور الجمهور في التقييم والفرز؟
رغم أن الجمهور ليس دائمًا متخصصًا، إلا أنه يمتلك أدواته الخاصة للتمييز بين المحلل الجاد والمحلل المدّعي. فالمصداقية لا تُفرض، بل تُكتسب مع الوقت، والتحليل السطحي أو المغرض سرعان ما ينكشف.
هناك مؤشرات بسيطة يمكن أن تساعد المتلقي في الحكم على جودة التحليل:
-
هل يقدّم المحلل معلومات دقيقة أم عبارات عامة؟
-
هل يعترف بوجود احتمالات متعددة أم يصرّ على سيناريو وحيد؟
-
هل سبق أن صحّت تحليلاته السابقة؟
-
هل يذكر مصادره أم يكتفي بكلمة “وصلتني معلومات”؟
-
هل لغته هادئة عقلانية أم مليئة بالتحريض والانفعال؟
تكرار الخطأ في التحليل، أو الاصطفاف الدائم لصالح طرف واحد دون عرض الآخر، يفقد المحلل مصداقيته، ويُفترض بالجمهور أن يعاقب ذلك بالإعراض، لا بالتصفيق.
نحو إعلام مسؤول وتحليل نزيه
إن الحاجة إلى التحليل السياسي والأمني أصبحت ملحة في زمن تسارعت فيه الأحداث وتعقّدت فيه المعادلات. غير أن هذه الحاجة يجب أن تُقابل بمسؤولية حقيقية من كل الأطراف: من المحلل الذي عليه أن يتحرى الدقة والموضوعية، من القناة التي يجب أن تتحمل مسؤولية الاختيار، ومن الجمهور الذي ينبغي أن يُحسن المتابعة والتقييم.
ما نحتاجه ليس مجرد محللين يملؤون الشاشات، بل عقولاً تحلل بعمق، وضمائر تحفظ الأمانة، وإعلامًا يختار الأفضل لا الأشهر.
فبين المعلومة والتحليل، تكمن مسؤولية أخلاقية ومهنية لا يجوز التهاون بها، لأن الكلمة قد تُطمئن أو تُخيف، تُضيء أو تُضلّل، تُبني أو تُهدّم.
