عندما تُختم حياة العظماء بالطريقة المشرّفة التي رحل بها السيد حسن نصر الله، تزيد قداستهم ويتحولون إلى أيقونة خالدة. هي قاعدة أثبتها غياب شخصيات استثنائية في التاريخ، وأعاد غياب نصر الله ترسيخها. ويمكن القول إن شهادة نصر الله هزّت مجتمع المقاومة، وشكلت منعطفا في حياة كثيرين.
لم يكن نصر الله يوماً رجلا عادياً أو مجرّد رجل دين أو سياسة، بل قدوة لأتباعه. هذا أمر معروف. لكن الفكرة الجلية هي المكانة العظيمة التي التمسوها في شخص السيد بعد استشهاده.
و«هذا لا يعني أنني لم أكن أحبه، بالعكس. لكن بعد شهادته عرفت قيمته أكثر وكم كان وجوده مهماً في حياتنا، ومصدر أمان في هذا البلد»، يشرح محمد حمدان. وخلافا لما يظنّه البعض أن المقاومة ستتزعزع بعدما تخسر قائدها، ازداد التعلّق بخط المقاومة أكثر مع رحيل سيدها، إذ عبّر أبناء البيئة عن تمسكهم بالنهج الذي أسسه سيد المقاومة والتزموا توريثه عبر الأجيال، في شكل من أشكال الوفاء له.
في زيارته الأولى إلى مكان استشهاد السيد في حارة حريك، وقف رامي معلناً تشيّعه. منذ سنوات طويلة، «تسحرني شخصية السيد، كقائد مقاوم وزعيم استثنائي، لكنني لم أنظر إليه من منظار ديني وعقائدي. أما بعد شهادته في ساحة المعركة، دفاعاً عن فلسطين ولنصرة المظلوم وسط الصمت العالمي المريب عما يجري من مجازر في غزة جعلتني أقتنع أن هذا الرجل على حق بكل ما يؤمن به من معتقدات وأفكار وأردت تقليده».
داخل مرقد سيد الشهداء في طريق المطار، هناك حالة غريبة من التأثّر يظهرها زوّار السيد. ليس تأثرا عاطفيا كالبكاء، بل تغيير في نهج حياة وهدم أفكار سابقة وبناء أخرى، على قياس «ما يحبّه السيد». عشرات حالات التكليف وارتداء الحجاب تمت عند ضريح السيد، «لنؤكد له أننا على نهجه مستمرون ونواصل الطريق»، تقول الطفلة لين، ابنة التسع سنوات، التي أصرت أن يكون تكليفها وتكليف شقيقتها التوأم ملك عند السيد.
وبعدما زارها في منامها طالبا منها وضع الحجاب والتقرب من الله، وضعت الشابة راما عساف الحجاب «من دون تردد وعن اقتناع بأن السيد يختار ما فيه مصلحة لنا». واختارت جودي حيدر يوم تشييع لترتدي الحجاب. هذا القرار أخذته يوم استشهاده عندما رحت لأخمد الحريق برفقة الدفاع و«تفاجأت أنّ السيد من بين الشهداء استشهاد السيد». تقول: «السيد فكرة صادقة وخسارة عظيمة، وأقلّ الوفاء له ولتضحياته أن نمشي على نهجه».
وبعد شهادته، عدّل كثيرون في سلوكهم بما يرضي السيد. توقّف أحمد، مثلا، عن تعنيف زوجته وأقلع عن تعاطي المخدرات. هكذا وعد السيد في أول زيارة إلى ضريحه، لأن «شهادته غالية، ولأن أمة سيدها نصر الله لا يجب أن يكون فيها معنّفا ولا مدمناً». وساعدت خطابات السيد ومحاضراته المسجلة أحمد في هذا التغيير، «خاصة تلك المحاضرة التي يتحدث فيها عن لوازم الحب، حيث شعرت أن السيد طبيب الروح، يعالجني ويدعمني حتى صرت إنساناً أفضل».
ومثل أحمد، يبحث كثر من محبي السيد في الأرشيف عن خطاباته ليسمعوا صوته، شوقا إليه. فيعثرون على خطابات لم يتسنَّ لهم الاستماع إليها، حتى «أصبحت أريد أن أعرف وأحفظ كل الوصايا التي وردت في كلامه، وأطبّق ما أمكن منها في حياتي اليومية، لعلّي أكون أهلاً لأقول عن نفسي أنني ابن: «بيئة السيد حسن». ولتطبق وصاياه أيضاً، قررت زهراء، ولأول مرة أن تشارك في زيارة الأربعين من دون أن ترفع شعارات سياسية، «كما طلب منا السيد أن تكون شعاراتنا دينية بحت». وتلاحظ زهراء كيف «تأثرت صديقاتها أيضا بالسيد بعد رحيله، فنفذن وصاياه على صعيد الالتزام الديني، والتمسك بالأخلاق مثل التوقف عن الغيبة وأذية الآخرين».
لم تكن صور السيد منتشرة في المنازل والمكاتب والمحال والطرقات بالكمّ الموجود اليوم. حيث يحيط السيد بأبنائه كيفما تحركوا.
«ويكفيني سعادة أن أقول له كل يوم «صباح الخير» قبل التوجه إلى عملي، وأسلّم عليه كلما مررت بجانب الصور التي وزعتها في غرف المنزل»، كما تقول إحدى السيدات. أما مرقده فأصبح «بيتا» يجمع محبيه الذين حرموا طيلة السنوات السابقة من لقاءه، ويشعرون اليوم بأنس غريب في جواره. نائل، الشاب العشريني، مثلا، كان يحمل طعامه في كلّ أيام شهر رمضان، «لإفطر عند السيد».
هكذا صارت شهادة السيد عزاء لمحبيه، كما كان وجوده عزاء لهم. «ففي شهادته استمدينا القوة، إذ لم يكن هناك مجال للضعف»، تقول بتول، زوجة الشهيد مفقود الأثر علي عقيل. وتشرح قولها «يجب أن نؤكد للسيد أننا على العهد ولن نخيّب ظنه مهما كان الثمن». وكما تعتقد أنّ «الشهداء أحياء»، لا شك أنّ «الشهيد الأسمى هو حي فينا، وسيرته مثل سيرة الإمام الحسين لن تموت أبداً».
الٲخبار ــ يارا عبود