لماذا لا يستطيع الشيعة الاستسلام والتطبيع وتسليم السلاح؟
بقلم الدكتور نسيب حطيط
تتّهم أمريكا وإسرائيل وبعض الأنظمة العربية، بل وحتى بعض الفلسطينيين، “المسلمين الشيعة” بأنهم يمنعون السلام في المنطقة، ويشكّلون صاعق تفجير دائمًا يُفشل كل مشاريع التسوية، من اتفاق 17 أيار في لبنان، إلى “صفقة القرن” و”خطة ترامب”. ويُعتبرون المذهب الإسلامي الوحيد والأخطر على العرب والمسلمين، لأنه ما زال يحتضن القضية الفلسطينية ويدعم مقاومتها المسلحة، في وقت تخلّى فيه معظم العرب عنها، وتحالفوا مع أمريكا وإسرائيل ضد حركات المقاومة وسعوا لنزع سلاحها.
وقد دفعت هذه المواقف أمريكا وإسرائيل إلى اعتبار الشيعة في لبنان والعراق وإيران واليمن، والنظام السوري السابق بوصفه “علويًا” أي “شيعيًا”، العدو الأساس والعقبة الأخيرة أمام ولادة “إسرائيل الكبرى” و”الشرق الأوسط الأميركي”، فبادرتا لإسقاط النظام في سوريا، وشنّتا الحروب على إيران واليمن ولبنان.
يفتري بعض اللبنانيين على المقاومة ويتّهمونها بأنها تسلبهم حب الحياة والفرح وتدمّر الاقتصاد، وهذا تزوير بيّن؛ فقد استطاعت المقاومة منذ عام 2000 حتى عام 2024 أن توفّر الأمن على كامل الجغرافيا اللبنانية، ولم يُخرق هذا الأمن إلا في حرب تموز 2006 لشهر واحد فقط.
بفضل المقاومة تحرّرت الأرض، وأُرغمت إسرائيل على الالتزام بقواعد اشتباك تحفظ أمن لبنان واقتصاده وانتخاباته النيابية والبلدية بعيدًا عن دبابات الاحتلال، أي ثلث عمر استقلال لبنان.
في المقابل، خرّبت الميليشيات المسيحية لبنان خلال الحرب الأهلية ما يقارب ثلث عمره، ولا تزال آثارها التخريبية ماثلة حتى اليوم.
لقد أعطت المقاومة الحياة للبنان، فيما جرّعه اليمين المسيحي الموت.
لماذا لا يستطيع الشيعة الاستسلام والتطبيع وتسليم السلاح؟
أولًا – البعد العقائدي:
العقيدة الدينية للمسلمين الشيعة ترفض الظلم والاحتلال بأمر إلهي:
(وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ).
مفاهيم الكرامة والعزة والشرف وحفظ العقيدة هي ركائز أساسية في شخصية المسلمين الشيعة وسلوكياتهم، ولا يمكن أن يبادلوا الخبز بالعقيدة، ولا الماء بالشرف والكرامة.
وقد أصدر فقهاء الشيعة جميعًا، منذ الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، فتاوى تحرّم الاعتراف بإسرائيل وتوجب دعم الفلسطينيين.
فقد وصفها الإمام موسى الصدر بأنها “شر مطلق”، واعتبر السيد محمد باقر الصدر أن “الاعتراف بإسرائيل خروج عن الإسلام”، ووصفها الإمام الخميني بأنها “الغدة السرطانية التي يجب اقتلاعها”، وهو الموقف نفسه الذي تبنّاه المرجع السيد الخوئي والسيد السيستاني وسائر المراجع الذين لا يجيزون السلام مع إسرائيل أو الاعتراف بها.
ثانيًا – الدرس من تجارب الآخرين:
يستفيد الشيعة من تجربة الأنظمة العربية التي وقّعت اتفاقيات مع إسرائيل، وأحدث مثال هو السلطة الفلسطينية التي وقّعت “اتفاق أوسلو”، فكانت النتيجة أنها بلا سيادة ولا كرامة، حتى وصل الأمر برئيسها إلى طلب حماية الفلسطينيين “كالحيوانات”.
وفي سوريا، بعد إسقاط النظام، أعطى النظام المؤقت كل التطمينات لإسرائيل بأنه لا يريد الحرب ومع ذلك احتلت الجنوب السوري واستباحت البلاد.
وقطر، رغم كل خدماتها، لم تسلم من القصف الإسرائيلي.
كل هذه الوقائع تؤكد أن الاستسلام لا يحمي المستسلمين ولا أوطانهم، بل يزيد الطمع الإسرائيلي.
ثالثًا – البعد الواقعي:
لم يهاجم الشيعة إسرائيل يومًا، بل كانت هي التي تهاجم لبنان. كل عمليات المقاومة كانت دفاعية داخل الأراضي اللبنانية، باستثناء حرب الإسناد.
تمسك الشيعة بالسلاح فرضته مخططات إسرائيل منذ المؤتمر الصهيوني الأول في بازل عام 1897، ومنذ مؤتمر الصلح عام 1919، حيث حُدّدت حدود إسرائيل المزعومة حتى نهر الأولي وجزين وجبل الشيخ، أي قبل نشوء لبنان وقيام المقاومة بعشرات السنين.
السلاح إذًا ليس خيارًا بل قدرًا فرضته الجغرافيا والواقع، إذ وُجد الشيعة على المتراس الأمامي لفلسطين في غياب الدولة اللبنانية وضعفها وتواطؤ بعض القوى العميلة لإسرائيل في بدايات تأسيس لبنان الكبير.
لا يريد الشيعة استمرار الحرب، فالحرب ليست هوايتهم ولا مهنتهم.
إنهم يريدون العيش بسلام وكرامة دون احتلال. فإذا توفّرت هذه الشروط التي يحفظها الدين والقانون، فإنهم سيعودون إلى حقولهم ومدارسهم ومصانعهم ويتخلّون عن السلاح الذي اشتروه بمالهم ودفعوا ثمنه آلاف الشهداء والجرحى وخسروا أرزاقهم.
لن يمنع الشيعة الفلسطينيين من الاعتراف بإسرائيل أو التنازل عن جزء من أرضهم، لكنهم لن يعترفوا بها ولن يقاتلوا نيابة عنهم بعد أكثر من سبعين عامًا من التضحيات.
واجبهم الآن حفظ عقيدتهم ووطنهم وأهلهم.
الشيعة لا يفرضون عقيدتهم على أحد، ولا يقبلون أن يفرض أحد عليهم عقيدته.
يحب الشيعة الحياة، لكن حياة كريمة عزيزة، ولذلك فهم يقاومون… ويستشهدون.