الاحتلال الجوي: الجيل الثالث من الاحتلال الإسرائيلي للبنان — قراءة في التكتيك والردّ/ د. نسيب حطيط
منذ توقيع الاتفاقيات التي لم تلتزم بها إسرائيل في تشرين الماضي، شرعت تل أبيب بتجربة نمطٍ جديدٍ من الاحتلال، قد يكون الأول من نوعه عالمياً: الاحتلال الجوي. هذا النموذج لا يشبه نماذج الغزو أو الاحتلال التقليدية، بل هو تكتيك عسكري–أمنيّ متفرّد رُعِيَتْ له مظلّة سياسية ودعم إقليمي ودولي. ويبدو أن مجزرة «البيجر» شكّلت مقدّمةً لهذا التحوّل في المفاهيم والأساليب، إذ كانت عمليةً خارجة عن سياق الحروب التقليدية وأخلاقياتها.
لبنان عاش سابقًا نموذجين من الاحتلال الإسرائيلي:
-
الاحتلال العسكري المباشر (1978 و1982) الذي تميّز بتواجد الجيش في مواقع ثابتة ودوريات راجلة وسيطرة جوية.
-
الاحتلال العسكري غير المباشر عبر ميليشيات محلية أو موالية.
هذان النموذجان أدّيا إلى خسائر كبيرة للجيش الإسرائيلي، فانسحب عام 2000 مخلفًا أثرًا لا يُمحى في الذاكرة اللبنانية. أما اليوم، وبعد معركة «طوفان الأقصى» وحرب الإسناد، فإسرائيل تواجه تحديات عسكرية ولوجستية: نقص في أعداد الجيش، حرب على جبهتين مستمرة، توسّع جغرافي للاشتباكات، وتعدّد الجبهات (لبنان، غزة، سوريا، اليمن، إيران، العراق).
لمواجهة هذه الصعوبات، تبنّت إسرائيل نموذجًا آخر: سيطرة جوية دائمة على الأجواء اللبنانية عبر أسراب من الطائرات المسيرة بأنواع وأحجام مختلفة، دوريات ليلية ونهارية، جاهزية مستمرة للقصف، وتصنيف أي هدف يقع ضمن البنية التحتية المدنية–الاقتصادية كمصلحة عسكرية محتملة (جرافات، خزانات، مصانع، حتى بنى تحتية أساسية). هذا التكتيك قلّل من مخاطر الاحتلال البري وجعل حضور العدو أقل عرضة للكمائن والعبوات الناسفة، بينما صار الاعتماد على القوة الجوية والنفاذ السريع عبر المسيّرات المنقّلة للمعلومات والقدرات الضاربة.
حقق هذا النموذج نجاحات تكتيكية ملحوظة لدى العدو، لكنه يفرض بالمقابل على المقاومة إعادة ترتيب أوراقها. فكما غيّر العدو أدواته من البر إلى الجو، يجب على المقاومة تجديد استراتيجياتها: تطوير إجراءات مكافحة الاحتلال الجوي لا تقتصر على الصواريخ الثقيلة والدقيقة فحسب، بل تتعدّاها إلى أدوات خفيفة وسريعة الحركة، إلى كمائن جوية ووسائل لتعكير عمليات المسيّرات وتعطيل سلاسل التجهيز والإسناد الجوية، وإلى تقنيات ميدانية ذكية تقيّد حرية الحركة الجوية والرقابية.
الرهان على الصواريخ الضخمة وحدها في وجه التفوق الجوي يُخاطر بجعل المقاومة “كيس رمل” أمام ملاكمٍ مُدرّبٍ؛ لذلك لا بد من التنويع: تكتيكات زعزعة الترحيل الجوي، عبوات جوية مضادة، حروب إلكترونية، وأساليب هجينة تُربك منظومات العدو وتقلّل من فاعلية سيطرته الجوية.
لكل مرحلة عسكرية أساليبها ووسائل المواجهة. المطلوب اليوم مزيدٌ من العقل والتقنية والتخطيط، لا الاقتصار على القوة العددية أو المعارك التقليدية. وبينما يبقى الثابت المبدئي — واجب المقاومة وعدم الاستسلام —، فإنّ التحوّل في أساليب العدو يستدعي أدوات مقاومة متناسبة: ذكية، متنقلة، ومؤثرة في الأجواء بقدر ما هي مؤثرة على الأرض.
إذا نجحت المقاومة في تطوير هذه الوسائل، فستبقى قادرة على تحويل الاحتلال الجوي إلى تجربة تُهزم، كما هُزِم الاحتلال البري سابقًا. وإلى أن يتحقق ذلك، فإنّ فرضية أن «حمل المقاومة وفصالها عامان» قد تكون في طريقها إلى الانقضاء — إذا ما توافرت الرؤية التكتيكية والتقنية والإرادة للتأقلم مع معطيات «الجيل الثالث» من الاحتلال.
