الرئيس برّي: رجل الدولة الذي تفوّق بالدبلوماسية على الرصاصة / غنى شريف
في زمن الأزمات والانقسامات الحادة التي عصفت بلبنان، برز الرئيس نبيه بري رئيس مجلس النواب اللبناني كأحد أعمدة التوازن الوطني، وكمهندس بارع لصياغة التوافقات، لا سيما حين يغيب العقل الجمعي وتعلو أصوات الانقسام. هو رجلٌ لم يكن يومًا بعيدًا عن خط النار، لكنه آمن بأن المعركة الأهم تُخاض بالكلمة، بالحكمة، وبالدبلوماسية التي قد تكون أبلغ من الرصاصة.
سيادة لبنان فوق كل اعتبار
منذ توليه رئاسة مجلس النواب، شكّل بري خط الدفاع الأول عن السيادة اللبنانية في وجه محاولات الاختراق الإسرائيلي، بدءًا من مقاومته السياسية للمشاريع التي تنال من وحدة لبنان، وصولًا إلى مواقفه الصلبة في ملف الحدود البحرية والبرية. لم يساوم على ذرة تراب، ورفض المهادنة حين تعلق الأمر بحقوق لبنان السيادية، سواء في الميدان أو في غرف التفاوض.
شكّل غياب السيد حسن نصرالله ، حمل ثقيل على أكتاف بري ، سواء لدواعٍ أمنية أو استراتيجية، أثرًا نفسيًا وسياسيًا على الرئيس بري، إذ وجد نفسه فجأة في موقع المواجهة المباشرة، لا فقط كممثل سياسي، بل كحامٍ للطائفة الشيعية في لبنان.
لقد ورث وحده مسؤولية ثقيلة في زمن بالغ الدقة، ووقف في وجه العواصف، من الداخل والخارج، حاميًا وحدة الصف الشيعي، ومدافعًا عن كيان الطائفة دون أن يغلق الباب على باقي مكونات الوطن.
رصّ الصفوف وتوحيد الموقف
في لحظة فارقة من تاريخ لبنان، استطاع نبيه بري أن يدمج “الثنائي الشيعي” –حركة أمل وحزب الله – تحت لواء سياسي موحد، جامع ومتماسك. لم يكن ذلك مهمة سهلة في ظل التحديات والضغوط، لكنه بذكائه وحكمته رصّ الصفوف، وخلق توازنًا استراتيجيًا جعل من هذه الوحدة سدًا منيعًا في مواجهة العدو الإسرائيلي، وأداة حماية للداخل من التشرذم والانقسام.
بري بين جوزيف عون ونواف سلام… صمّام الأمان في وجه العاصفة
مع وصول العماد جوزيف عون إلى رئاسة الجمهورية وتولي نواف سلام رئاسة الحكومة، دخل لبنان مرحلة حسّاسة تتداخل فيها الأدوار وتتصاعد فيها المواقف. وفي هذا المناخ المتوتر، حيث تصدر عن رئيس الحكومة تصريحات تكاد أن تشعل الداخل اللبناني وتُثير الغرائز السياسية والطائفية، برز دور الرئيس نبيه بري كحائط الصدّ الأخير. لم يسمح بأن يتحول الحكم إلى ساحة للتجاذبات الخارجية أو أن تُستدرج الدولة إلى مواجهات داخلية مفتوحة. بحكمته ودهائه السياسي، وجّه بري البوصلة الوطنية مجددًا، وحافظ على التوازن بين المؤسسات. استطاع أن يُعيد الرؤية الاستراتيجية إلى مسارها، وأثبت أنه الأقدر على إدارة دولة متأرجحة دون أن يسمح بأن يُستخدم أي من رموزها كأداة لتنفيذ رغبات الخارج.
ذكاء سياسي نادر
يمتلك الرئيس بري قدرة خارقة على قراءة الواقع السياسي اللبناني بتفاصيله الدقيقة. فهو من القلائل الذين يعرفون كيف يُديرون الأزمات لا كيف يهربون منها. إن ذكاءه السياسي لا يتجلى فقط في خطابه، بل في قدرته على احتواء الخلافات وابتكار الحلول، دون الانحياز لطرف دون آخر، ودون فقدان موقعه كـ”مرجعية” وطنية. فحتى خصومه يقرّون بدوره الحاسم في تهدئة الانفجارات السياسية.
حنكة في إدارة الخلافات الداخلية
لم تكن الحياة السياسية في لبنان يومًا سهلة، وهي قائمة على توازنات طائفية وسياسية معقدة. لكن بري، الذي عرف كيف يُمسك العصا من الوسط، نجح في أن يكون صوت الحكمة وسط الضجيج، وصمام الأمان في لحظات الانهيار. استخدم الحوار سلاحه الأقوى، وجعل من مجلس النواب منبرًا دائمًا لتقريب وجهات النظر لا تأجيجها.
دبلوماسيته أبلغ من السلاح
في الداخل، حيث تكثر التناقضات وتشتد الصراعات، اختار بري طريق الدبلوماسية الصلبة: أن يكون قويًا من دون أن يرفع صوته، صارمًا من دون أن يهين، حاضرًا من دون أن يتصدر المشهد بالشعارات. لقد تمكّن بمهارة لافتة من “لجم” أعداء الداخل، لا بالصدام، بل بالتوازن، بالإقناع، وبالرسائل التي يرسلها في التوقيت المناسب وباللغة التي يفهمها الجميع.
خاتمة:
نبيه بري ليس مجرد سياسي عابر في تاريخ لبنان، بل هو مدرسة في الحنكة والدهاء السياسي. رجل جمع بين الكلمة والموقف، بين الحوار والحزم، وجعل من دبلوماسيته قلعة منيعة تحمي لبنان من السقوط في فخ الانقسامات القاتلة. واليوم، أكثر من أي وقت مضى، يحتاج لبنان إلى أمثاله: من يعرفون أن الكلمة متى قيلت في وقتها، تفوق أثر الرصاصة.